في كل مدرسة عربية هناك كتب توزع مع بداية العام الدراسي، كتب تُفتح وتُغلق وتُنسى أحيانًا، لكن ما لا ينسى هو الأثر العميق الذي تتركه هذه الكتب داخل عقل الطفل. المناهج ليست مجرد محتوى يُدرس بل هي رسالة مكتوبة تحدد كيف يرى الطالب العالم وكيف يفكر فيه. في العالم العربي، حيث تتقاطع الثقافة والدين والسياسة في لحظة واحدة، تصبح المناهج التعليمية أكثر من مجرد أدوات للتدريس. إنها الوسيلة الأذكى لبناء الأجيال أو تقييدها.
أول ما يتعلمه الطفل ليس الأبجدية، بل كيف يفسرها. هذا التفسير يُصاغ ضمن منهج محدد، يقرر أي القصص تُروى وأيها يُحذف، أي القيم تُزرع وأيها يُتجاهل. المنهج يهمس في أذن الطفل من هو عدوه ومن هو صديقه، ما هو الحق وما هو الباطل، وأين تبدأ حريته وأين تنتهي. ولهذا، فإن وعي الأجيال لا يولد فجأة بل يتشكل بهدوء داخل الفصول وبين الصفحات.
كيف تُغرس المبادئ دون أن تُقال
ليست كل القيم تأتي بصيغة جملة مباشرة. في كثير من الأحيان، يتعلم الطفل من مضمون القصة أو من طريقة عرض المعلومة أكثر مما يتعلم من الدروس الظاهرة. فحين يُكتب درس عن التعاون بين الجيران، أو عن أمانة التاجر، لا يقرأ الطالب القصة فقط بل يشعر أنها جزء من ثقافته. وهنا تكمن قوة المنهج. إنه لا يلقّن بل يوحي، لا يأمر بل يوجّه بطريقة ذكية.
لكن هذه القوة قد تتحول إلى أداة خطيرة حين تُستخدم لتثبيت أفكار محددة تقيّد التفكير النقدي أو تعزز الانغلاق الثقافي. مثلًا، حين يغيب التنوع الثقافي والديني عن المناهج، فإنها تخلق جيلًا يرى العالم بلون واحد فقط. وإذا غاب تاريخ الشعوب الأخرى أو تم تحريفه، فإن الطالب ينشأ وهو يحمل تصورات مشوهة عن الآخر. هذا لا يعني أن المناهج العربية كلها سيئة، لكنها بحاجة إلى مراجعة مستمرة.
الأجيال الجديدة تختلف عن تلك التي سبقتها. هذا الجيل يعيش في زمن الإنترنت المفتوح، يطرح الأسئلة قبل أن تُعرض عليه الإجابات. ولهذا فإن المناهج القديمة التي كانت تعتمد على الحفظ والتلقين لم تعد تجدي نفعًا. العقل الحديث لا يقتنع بسهولة، ولا يتبع إلا ما يشعر أنه حقيقي. لذلك، يحتاج المنهج إلى أن يكون أذكى من ذي قبل. أن يفتح باب النقاش لا أن يغلقه، أن يثير الفضول لا أن يروضه.
كيف يمكن تحقيق التوازن
واحدة من أكثر القضايا حساسية في المناهج التعليمية العربية هي مسألة الوطنية. فغالبًا ما تُصاغ الدروس لتأكيد حب الوطن والانتماء له. وهذا أمر جميل وأساسي، لكن التحدي هو في عدم تحوّل هذا الحب إلى شكل من أشكال التعصب أو العزلة. يجب أن يتعلم الطالب كيف يحب وطنه دون أن يكره الأوطان الأخرى. كيف يعتز بهويته دون أن يسخر من الهويات الأخرى. هذا التوازن لا يأتي بالصدفة بل بتخطيط دقيق في اختيار الكلمات والمفاهيم.
المنهج الذي يزرع في الطالب أن العالم معركة خاسرة ضد الآخر، سيخلق جيلًا خائفًا أو غاضبًا أو متوجسًا من كل ما هو مختلف. أما المنهج الذي يعلّمه أن التعاون ممكن، وأن الإنسان أخ للإنسان رغم الاختلافات، فإنه يصنع جيلًا قادرًا على التواصل والإبداع والتطور.
أحد التحديات أيضًا هو كيفية تقديم التاريخ. في كثير من المناهج، يُعرض التاريخ على أنه انتصارات متكررة دون الاعتراف بالأخطاء. هذا يخلق صورة مثالية وهمية تفقد الطالب الإحساس بالواقعية. من الأفضل أن يُدرَّس التاريخ بما فيه من نجاحات وإخفاقات، لأن ذلك يُكسب الأجيال فهماً ناضجًا لطبيعة الحياة، ويدفعهم للتفكير في المستقبل بعين ناقدة لا مغرورة.
أهمية اللغة
اللغة المستخدمة في الكتب الدراسية ليست محايدة. طريقة الصياغة، نوع المفردات، وحتى الأمثلة المختارة، كلها تؤثر في طريقة فهم الطالب للعالم. إذا كانت اللغة خشبية ومليئة بالتعقيدات، فإن الطالب ينفر من القراءة. وإذا كانت مليئة بالتحذيرات والترهيب، فإن الطالب ينمو على الخوف لا التفكير.
كذلك الصور. صورة الفلاح في الحقل أو المرأة في المنزل أو الشرطي في الشارع، كلها تنقل رسائل خفية عن الأدوار المجتمعية. إذا تم تكرار نمط معين باستمرار، فإن الطفل يتبناه كأنه القانون. ولهذا يجب على صانعي المناهج أن يكونوا واعين لما يضعونه في كل زاوية من الصفحة. فحتى التفاصيل الصغيرة قد تشكل وعيًا كبيرًا في ذهن الطفل.
اليوم، هناك وعي متزايد بأهمية تمثيل جميع شرائح المجتمع داخل المناهج. المرأة، الأقليات، ذوو الاحتياجات الخاصة، الفئات المهمشة، كل هؤلاء يجب أن يجدوا أنفسهم ممثلين بشكل إيجابي ومحترم في الكتب الدراسية. لأن الهوية لا تتشكل فقط بما يُقال، بل بما يُرى ويُلمس ويُشعر به.
كيف نصنع مستقبلًا يبدأ من مقعد الدراسة
إذا أردنا أن نصنع جيلًا عربيًا قادرًا على مواجهة العالم بثقة وعقل منفتح، فيجب أن نبدأ من حيث يتشكل هذا الجيل من المدرسة. المناهج ليست مجرد وسيلة للنجاح في الامتحانات، بل هي البذرة الأولى في بناء الشخصية. ولهذا يجب أن نعيد النظر في طريقة تصميم المناهج، من حيث الشكل والمحتوى والهدف.
نحتاج إلى مناهج تُعزز التفكير النقدي، تُشجع على الإبداع، تُحترم فيها الآراء المختلفة، وتُقدم فيها المعرفة بشكل واقعي وإنساني. نحتاج إلى أن نعلم أبناءنا كيف يسألون لا فقط كيف يجيبون. كيف يشككون بطريقة صحية، لا أن يخافوا من السؤال.
المناهج هي المرآة التي يرى الطالب من خلالها نفسه والعالم من حوله. وكلما كانت هذه المرآة نقية وعادلة ومتوازنة، كلما نشأ جيل أكثر وعيًا بنفسه وبغيره. التعليم ليس ترفًا بل هو المستقبل. وإن كنا نريد مستقبلًا أفضل، فلا بد أن نبدأ بإعادة صياغة ما نعلّمه اليوم.
التعليقات
لا توجد تعليقات